نبضات وآراءنبضاتهمهيدلاينز

ماذا تعلمنا من هزيمة 5 يونيو؟

مقال لـ مصطفى عبيد

اليوم ذكرى أشد وجع، وأكبر خسارة، وأعنف سقوط.

فى الخامس من يونيو سنة 1967، تجرعت مصر هزيمة عسكرية قاسية، دفعنا ثمنا غاليا لها. خسرنا شبه جزيرة سيناء، وفقدنا نحو خمسة عشر ألف شهيد، وتعطلت حركة التنمية الاقتصادية لست سنوات، وشاعت روح من الإحباط والتشكك والشعور بالضآلة فى نفوس الناس.

صحيح أن مصر استردت الردع العسكرى فى أكتوبر 1973، ثُم استعادت أرضها فى معركة تفاوض عظيمة، لكن شعور الإحباط العام بنى قواعده الراسخة بين الناس، مع جنوح غالبية المجتمع نحو التدين الشكلى، والوقوع فى بحر الإسلام السياسى، وما صاحب ذلك من تقبل للخرافة وتجميد للعقل والعلم، وهو ما جعل عبارة المؤرخ النابه خالد فهمى فى وصف «هزيمة يونيو» بإضافة كلمة «المستمرة» تجد مَن يرتضيها كإشارة عامة لتبرير كثير من المشكلات المزمنة.

الطيب فى الأمر أن أحد العالمين بظواهر الأمور وبواطنها أخبرنى قبل سنوات قليلة أن مسؤولا مُهما شكل لجنة لتقصى حقائق ما جرى فى هزيمة يونيو، رغم مرور عقود طويلة عليها، وتم إعداد تقارير حول أسباب الهزيمة، للعمل على تجنب تكرارها.

ورغم أننا ـ كأصحاب أقلام أو إعلاميين ـ لم نطلع على الدراسات والتقارير التى حللت الهزيمة، إلا أننا نكاد نستقرئ بعض السمات الواضحة فى السياسة العامة والتى أدت إلى الهزيمة، وهو ما عبّر عنه الشاعر الراحل نزار قبانى فى قصيدة طاغية المرارة قال فيها «ما دخل اليهود من حدودنا، وإنما تسربوا كالنمل من عيوبنا».

فلاشك مثلًا أن الاستبداد السياسى الطاغى، والآحادية فى الرأى والرؤى، والتسليم للسلطة بأنها خير مَن يرى ومَن يفكر ومَن يفعل، أدى إلى تراكم الأخطاء دون مراجعات، واعتبار كل ناقد متآمرًا.

وكان من كل ذلك، تنامى ظاهرة النفاق السياسى التى اعتبرت السلطة دائمًا على صواب، وهو ما لاح مثلا فى تعبير عبد الرحمن الأبنودى فى أغنية حليم الشهيرة «ابنك يقولك»، حين قال «ثورتك عارفة الطريق، وعارفة مين يابا العدو ومين الصديق».

قبل المباغتة الموجعة، لم يكن فى مصر سوى صوت واحد، وتوجه وحيد، ورأى منفرد. توارت المعارضة السياسية بعد أن وئدت التعددية، وصارت مُهمة النُخبة أن تتحاور فى تفسير كلمات الزعيم التى أهدتنا إياه السماء، لا أن تتحاور مع الكلمات نفسها.

شرعت الرقابة على الكلمات وُقننت، حتى صار كل مسؤول عن نشر يطلب السلامة فيما هو منشور فيشطب عبارتين، ثُم صار الكاتب نفسه رقيبًا على ذاته، وسعيًا للمرور فيشطب كلمتين، حتى صارت المقالات ألغازًا يحتاج تفكيكها لأذهان متقدة.

لم يكُن هناك مناخ قابل للاختلاف المحمود، ولم يُقيّم أحد السياسات المنفذة حتى إن كُتابًا وصحفيين وأساتذة جامعات وأناسًا محسوبين على فصيل العقلاء أيدوا وساندوا الحرب العبثية فى اليمن، بل وشجعوا الدخول فى عداوات مع بعض النظم العربية تحت لافتة دعم حركات التحرر. وكان من الغريب أن حقبة الرئيس عبدالناصر المروجة للقومية والوحدة العربية شهدت أسوأ موجات هجوم وردح غير سياسى على الزعماء والقادة العرب، ففى ظل ديكتاتورية الحكم صار كل فعل للسلطة حقًا وصوابًا ومجدًا وإنجازًا.

فى الخامس من يونيو استيقظ الجميع على الحقيقة الكاملة. لا ريادة تُبنى باستبداد سياسى، لا انتصار يتحقق فى ظل قهر، ولا تقدم يولد والحريات غائبة.

الهزائم مُعلمة. دروس خالدة عبر التاريخ. تُضىء لنا العتمات، تُنبهنا لنتجنب ما كان، ونُصحح ما مضى، ونُغيّر ما ينبغى تغييره، ونراجع أنفسنا، ونجدد أحوالنا. وهذا ما يدفع البعض أن يشكر لحظات الهزيمة الموجعة.

المصدر: المصري اليوم

تنويه: المقالات المنشورة في تبويب “نبضاتهم” تمثل رأي كتّابها فقط وليس بالضرورة رأي موقع “نبض الشام”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى