نبض الساعةنبضات وآراءنبضاتهمهيدلاينز

عن خطف السوريات الرمزي والمادي

مقال لـ رشا عمران

يتجاهل مثقفون وحقوقيون ونسويات مناضلات وصحافيون كثر ما يحدُث من خطف نساء سوريات على أساس طائفي، وبعضهم يكذّب هذه الرواية، وينحدر في سرديّته عنها ليحولها إلى مجرّد فتيات هربن من ظروف مادية واجتماعية سيئة. وحين تنحدر السردية أكثر، وهذا يحدُث كثيراً، للأسف، يجري الحديث أن هاته الفتيات والسيدات يهربن مع عشّاقهن، وأن عادة الهرب مع العشّاق جزء من “العقيدة” التي تنتمي إليها تلك الهاربات، في أكثر تبريرات خطف النساء على أساس طائفي إساءة لا للنساء فقط ولا لطوائفهن وعقائدهن، بل للوطن والمجتمع السوريين أيضاً، وللتعايش الطبيعي بين البشر، وللذاكرة الجمعية الوطنية، ولكل قيمة إنسانية يمكنها أن تجمع الناس بعضهم ببعض، فما بالكم بمن يُفترض أنهم أبناء وطن واحد، وبينهم من التاريخ والعشرة ما يجب أن يجعل منهم جسداً واحداً، وأن يجعل من إهانة فردٍ واحدٍ على أساس الدين أو الطائفة أو العرق إهانةً تطاول الجميع.

ليس خطف النساء جديداً في سورية، هو ممتد منذ سنوات الثورة والحرب، مارسه الجميع ضد الجميع، لم يكن يحمل طابعاً طائفياً سابقاً، بل طابعاً ذكوريّاً تسلّطياً. كان شبّيحة الأسد يخطفون فتيات “علويات” من دون أن تتمكّن عائلاتهن من توجيه الاتهام إلى أحد، بسبب الخوف من العقاب الجماعي. وكانت الفصائل الجهادية تخطف فتيات “سنّيات” من دون أن تتمكّن عائلاتهن من توجيه الاتهام لأحد بسبب الخوف من العقاب الجماعي. وهذه كلها قصصٌ جرى السكوت عنها، كما لو أنها لم تحصل، فالمسكوتُ عنه منفيٌّ، ولا يدخل في الذاكرة الجمعية الوطنية، يبقى محدوداً ضمن إطار ضيّق جداً، ويجري تداوله كما لو أنه سرٌّ قاتل.

ضاعت عشرات قصص الخطف والسبي والاتجار بالنساء وسط جعجعة الصوت الذكوري القاتل، صوت الحرب والسلاح والموت؛ ضاعت حكايات المخطوفات، ليس فقط لأن كثيرين اعتبروها هامشيةً أمام متن الحرب المجنونة، بل لأن ثمّة نهجاً لمحو الصوت النسائي من الحضور لصالح صوتٍ ذكوريٍّ تسلّطي عنفي، لديه شعور باستحقاقية الإهانة والاذلال والقتل والاستباحة تحت كل المسمّيات. وللأسف، مسمّى ما يحدث اليوم هو الاستحقاق الطائفي، حيث يصبح خطف نساء الطوائف الأخرى هو خطف لشرف هذه الطائفة، كون الجميع يحصُرون الشرف بحدود جسد النساء، هو إعلانُ انتصار، فاستباحة شرف طرف آخر من دون خوفٍ من العقاب هو بمثابة إعلانٍ للقوة والسلطة التي تكون دائماً منتصرة.

يأخذ خطف النساء اليوم أيضاً بعداً ثقافياً، ذلك أن الخطف ليس للجسد فقط، بل للذاكرة الأخرى، وللسردية الأخرى، هو خطف رمزي بقدر واقعيته، فالجسد الأنثوي ليس فقط غنيمة حرب، بل احتلالاً للذاكرة، وخصوصاً أن اللواتي يعُدن يرفُضن مع عائلاتهن الحديث عما جرى، أو يختلقن قصصاً ركيكةً لغيابهن وعودتهن. لكنها قصصٌ محمّلة بخوفٍ وجوديٍّ يجعلهن أسيراتٍ حتى بعد تحريرهن. خطف النساء الطائفي يجعل نساء هذه الطائفة أو تلك جميعهن مخطوفات، يعِشن رهينات الخوف والصمت، بينما يعلن الخاطف بياناته مع كل مخطوفة جديدة: “أنا قادر على الوصول إليكن في أي لحظة أنا أريدها”. هكذا تخرج المرأة أو الشابة من دائرة الحياة العامة، تخرُج من حيّز الحياة اليومية لتعيش صامتة مكسورة ومرعوبة، ويعيش مجتمعها الصغير في حالة الخوف نفسها، فيما لو تحدّث أحدُهم عما جرى.

خطف النساء الطائفي هو خطف للهوية الأخرى، هو إعادة رسم للخريطة الوطنية والمجتمعية تُناسب صاحب السلطة الراهنة، وتعيد إنتاج تراتبياتٍ يحدّدها السلاح والعنف والطائفة. خطف النساء الطائفي في أصله خطفٌ للهوية الوطنية، للوطن عموماً، يشارك فيه كل من لا يرى في الوطن أكثر من غنيمة حرب. لهذا يبقى الخاطفون من دون عقاب. وحين يصمت عنه أو ينكره مثقفون وحقوقيون وصحافيون ونسويات، ويتم تبني سردياتٍ أقلّ ما يقال عنها إنها شديدة الانحطاط، فهذا يعني أن الوطن كله اليوم أصبح رهينة لدى خاطف ذكوري وعنفي، يحتمي بسلاح الطائفية وسيلة وحيدة لبقائه.

المصدر: العربي

تنويه: المقالات المنشورة في تبويب “نبضاتهم” تمثل رأي كتّابها فقط وليس بالضرورة رأي موقع “نبض الشام”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى