من يدير غزّة في اليوم التالي؟… سكًانها وأهلها حُكماً، ودعك من أمرين: أولهما مجلس يترأسه الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ويفترض أن يلعب رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير دوراً مركزياً فيه. والثاني السلطة الفلسطينية في راهنها البائس، وبعد أن تخلّت بشكلٍ مخز عن أي دور لها خلال العدوان غير المسبوق على قطاع غزّة.
وليس من مصلحة أحد، فلسطينياً على الأقل، أن يصحو الغزّيون ويجدوا وزيراً من رام الله وقد هبط عليهم بالمظلّة لإدارة شؤونهم، فللأمر خلفيات سيكولوجية بالغة التعقيد، وازدادت تعقيداً بعد تخلي رام الله فعلياً عن غزّة، ما أحدث شرخاً يحتاج وقتاً طويلاً لإصلاحه بين “جناحي الوطن” الفلسطيني، فثمّة شعور تكرّس وتوحّش خلال شهور الإبادة المؤلمة بأن الغزّيين وحدهم في هذا العالم، وأن أشقاءهم في الوطن والمصير، قبل العرب، قد تخلّوا عنهم.
قد يكون شعورٌ كهذا مبالغاً فيه، ولكنك لا تستطيع أن تلوم الضحية وتطالبها بأن تكون موضوعية، وتُدرج الأمر في سياقه العريض الذي بدأ بوهن “الوطنية” الفلسطينية، وانتهى بجُزر صغيرة تتمتّع بإدارة ذاتية وتبحث عن المزايا والفرص أو حتى النجاة، وهذا من الأمور المؤسفة والمؤلمة التي تحدث لشعوبٍ ترزح أو رزحت تحت الاحتلال الذي فتك بروحها وأوهنها، ثم سعى بلا كلل إلى هزيمتها من الداخل بعد تفتيتها.
ما يحتاجه الغزّيون إعادة ثقتهم بفلسطينيتهم أولاً، استردادها بكامل عافيتها، وهو ما لا توفره بدائل بيروقراطية نخرها الفساد والتخلي والخذلان قد تعرضها السلطة الفلسطينية. … وأن يدير قطاع غزة واحد من أبنائه، والاسم المقترح في أيامنا هذه أمجد الشوّا، من شأنه إشعار الغزّيين بأن ثمّة من يفهم ويتفهم، ومن يمسح على الجروح بحب وتعاطف حقيقي، بالأحرى بشعور بالشراكة الحقيقية في الألم، وبأن على أحدهم أن يسحب السكّين من الجسد المطعون وهو يستعد لاحتضان الضحية والبكاء معها، لا إلقاء المحاضرات عن القانون الأساسي الفلسطيني (الدستور) أو تراتبية السلطة وهرميّتها، وما يجوز ولا يجوز، بينما كان من يُحاضر اليوم غائباً في الأمس عندما أطبق العدوان على غزّة ولم يترك حجراً على حجر فيها.
وبعيداً من السيرة الذاتية لأمجد الشوّا، فإن السيرة الأكثر أهمية بالنسبة للغزّيين هي سيرة عائلته الكبيرة التي تمنحه رصيداً من المصداقية لدى الغزّي بين أنقاض بيته أو في تجارته الصغيرة بعد حين، بأن هذا الرجل من هذا الجسد نفسه الذي سُلخ، قبل أن يقطّع ويُرمى، فلعائلة الشوا تاريخ مجيد في العمل الوطني، إضافة إلى البلدي، منذ الحقبة العثمانية حتى حكم حركة حماس غزّة، فالعائلة توارثت، بالانتخاب أو بدونه، رئاسة العمل البلدي في غزّة، واتسم أداء كبار رجالاتها بالنزاهة والإيثار والعطاء، ما أوجد مصداقية كبيرة بينها وبين أفراد مجتمعها المحلي، وهذا رصيدٌ نادرٌ لا يجدي معه رفضٌ من السلطة الفلسطينية أو من إدارة بلير المفترضة.
على السلطة الفلسطينية ورئيسها أن يتراجعا من أجل شعبهما، ألّا يزيدا الانقسامات، وبعضها بالغ السوء، لأنه يتعلق بمفهوم “وطنية الفلسطينيين” وإجماعهم، بعد إبادة غزّة، وأن يديرا المرحلة المقبلة بأقل قدر من الرغبة بالاستحواذ والإقصاء، فقد تجاوز الفلسطينيون، في عمومهم، هذه المرحلة، فليس ثمّة تنازع على الهوية الآن، بل على البقاء.
والمأمول أن تفهم هذا النخبة المعزولة عن شعبها في رام الله، وأن تنسحب بهدوء من المشهد الذي ساهمت أكثر من غيرها في بؤسه وإيصاله إلى مرحلة الكفاح من أجل مجرّد البقاء على قيد الحياة وبين الأمم، وأشكّ أنهم يعون درك السوء الذي أوصلوا شعبهم إليه.
تراجعت “حماس” عن أيديولوجيتها بموافقتها على وقف إطلاق النار (العدوان)، وقامرت بالتالي ببقائها نفسه في مقبل الأيام من أجل وقف المذبحة المفتوحة على سماء الله وعراء الكون كله. وعلى السلطة الفلسطينية أن تفعل الشيء نفسه، فالفلسطينيون الذين خرجوا من أسوأ مجازر التاريخ الحديث يحتاجون إلى وحدتهم، وهم يتجهون نحو دولتهم المرتجاة، وليس لديهم حالياً ترف المناكفات الرخيصة والخسيسة ومحاصصة الفصائل والقوى. وفي الظن، بل القناعة، أن غزّة هي الحجر الأساس في البناء الوطني كله، فإذا كانت كان، وإلا انفرط عقد المسبحة وذهبت رياح الفلسطينية إلى الأبد.
المصدر: العربي
تنويه: المقالات المنشورة في تبويب “نبضاتهم” تمثل رأي كتّابها فقط وليس بالضرورة رأي موقع “نبض الشام”




